الخميس، 29 ديسمبر 2011

هل أسست الانتخابات لديمقراطية فعلية؟

استبشرنا بالثورة واحتفينا بشعاراتها التي كانت منا متماهية مع همومنا وتطلعاتنا ، نادينا بالحرية والكرامة والشغل والقضاء على الفساد ومحاسبة الفاسدين ، نادينا باصلاح كل المنظومات المخترقة من السلطة من قضاء وادارة وجباية ...
من صدف الاقدار التي استجابت للشعب في مطالبه ان تكون انتخاباته في تشرين شهر الخصب والبذر وشهر الأمل فكانت كما قيل ناجحة أو كادت ، هب الناس لمكاتب الاقتراع يأتونها من كل فج عميق بعد حملة انتخابية هادئة و حملة غسيل دماغ اشتغلت على مدى ثلاث اسابيع ،كانت خلالها البرامج ومشاريع الدستور أخر ما طالب به المواطن و آخر ما قدمه معظم المترشحين استجابة لإنتظاراته وضربا عرض الحائط بمبادئ الحملات الانتخابية ، عوض البرامج خطاب شعبوي غزلي بسيط تفنن في نظمه البعض وجند لذلك ما أتيح من منابر و مساجد وحلقات دينية واجتماعات في الأسواق ومكبرات صوت و وشوشة في الأذان أجمعت كلها على الدعوة للتصويت " للحق " ولحماة الدين والوطن ليهنأ الشعب من جديد بحامي الحمى والدين ...
حملة لعب المال السياسي فيها دوره في غفلة من كل اللجان ، حافلات و ولائم و دعاية أناء الليل واطراف النهار في المساجد و المقاهي وبين المصطفين للإقتراع و داخل مكاتب الاقتراع و من خلال نوافذها ونوافذ أخرى يعلمها الجميع باستثناء اللجنة .
وأصبحنا على نتائج تشبهنا كثيرا أكثر من نصف الشعب لم يذهب للإنتخاب ، استقالة من المشاركة في الحياة السياسية و صمت طويل وطموحات محدودة في اكل وشرب و مأوى ثم ربما حرية ... قيل ذات شتاء " الشعب يريد اسقاط النظام ، حريات حريات لا رئاسة مدى الحياة ، التشغيل استحقاق ...وغيرها " وحين سألنا الشعب خلال الحملة عما يريد أجاب أغلب الناس " نحبّو يشدّها واحد يخاف ربي ..." ومن خلال لفظة "واحد" ندرك ان فكرة الديمقراطية لم تنضج بعد في ذهن عموم الناس فقد قضينا على واحد ...واذا بالمطلب واحد أخر ..كما أن فكرة دولة القانون لم تتضح بعد لتصبح مطلبا باعتبار ان المطلوب " واحد يخاف ربي " وهو مطلب لا يوحي بضرورة الالتزام بالقانون بقدر ما يوحي بان المطلوب معنوي بعيد عن سيادة القانون  .
سألنا الناس : ماذا تريدون من الانتخابات ؟
فجاء الجواب " نحبو نخدمو ، نحبو البلاد تريض ، ما يهمّش شكون يشد الحكم ..." و يبدو من ذلك قطيعة بين مطلب الديمقراطية و مطلب الاصلاح الاقتصادي لم يتبلور الربط بينهما بعد او لم يراد له ان يتبلور ..
خاطبنا الناس ببرنامج ومشروع دستور ومبادئ و أفكار وآمال نحققها جميعا فجاء الجواب : " قداش تعطوني تو نصوتلكم هاو الجماعة يعطو في المساعدات ، هاو الجماعة يعطو في علوش العيد ، هاو الجماعة يخلصو في الفاتورات ..." ففهمنا بدون عناء ان نقص الوعي السياسي لدى الناس الذي تكون سنوات الدكتاتورية والتهميش حافظ عليه المحافظون بل وزادته " الجماعة " تكريسا للوصولية وبيع الذمم و تغييبا لثقافة الديمقراطية .
قيل ليست كل انتخابات تفرز بالضرورة ديمقراطية وقيل ايضا ان الديمقراطية سلوك ومنهج حياة ودربة وتعلّم و بناء وتراكم ...فقد نجحت تونس من حيث الشكل في انجاز انتخابات و ينتضرها رهان النجاح في تكريس المنهج ...وتبديد المخاوف ، تلك المخاوف التي كانت تتمحور حول الخشية من أن يفرز الصندوق تجمعا أو تطرفا فأفرز تشكيلات ماضيها هذا وذاك وحاضرها توبة وخطاب جديد فمن كان يروج لغلق النزل وفرض لباس معين و تطبيق أحكام طواها التاريخ وتورط في العنف و اعترف به بدى معتدلا مدافعا عن المكاسب الحداثية للبلاد في خطابه المعلن وفي الصندوق ايضا تشكيلة أخرى ليست تجمعا بل مشتقة منه في شكل " عرائض " و " مبادرات " مستعملة رصيدها من الموالين السابقين و ماكينة انتخابية خبرها من ركّع البلاد والعباد ربع قرن ، من كان في عصابة بن علي يروّج لبلد الفرح الدائم تبرأ من ماضيه و لبس حلّة برقيبية ملمعة قابلة للترويج والهضم في اذهان الناس ...
وتشكيلة من أحزاب كانت تقدمية ارتمت في احضان اليمين منبئة بحزام كرتوني يحيط بالسلطة الجديدة ، اما مابقي من أطراف ثورية ويسارية وحداثية و قومية تقدمية فقد دخلت المجلس فرادى وازواج في موقف يذكرها دوما بأنها أضاعت فرصة توحّد ثمينة ولم تحيي الثورة فيها سوى نرجسية قديمة وذاتية متضخّمة ...
رجع صدى هذه الانتخابات وهذه النتائج امتحان للديمقراطية عسير وتطمينات حول البديهيات واصوات اصولية تنبعث من هنا وهناك تهدد حرية المراة و الحريات العامة انطلقت من الحرم الجامعي في انتظار الشارع و المجتمع تجهر بالدعوة لأنظمة بدائية و تختبر قدرة المجتمع على ردة الفعل تجاه هذا الترهيب الفكري والمعنوى واحيانا المادي و تختبر قوتها وسندها داخل فئات مهمشة وأغلبية لامبالية .
ان الهدف جلي وواضح أمام كل نفس تقدمي حداثي مستنير ان يقف الجميع ضد كل ارتداد ثقافي او اجتماعي وان يفضح كل ازدواجية في الخطاب و كل تلاعب بمصير الشعب ...لكي لا نطرح السؤال المحرج يوما : هل طالب الشعب فعلا بديمقراطية ؟ ام أقلية مضطهدة نادت بها ؟ هل صوّت الناس من أجل ارساء تعددية أم عوضو حزبا بحزب و فردا بفرد ؟ ثم لماذا لم يصوت نصف الناخبين المفترضين ؟ لمن ستكون اصواتهم ، هل هم راضون عن النتائج ، هل اهتموا بها أصلا ؟
مرة أخرى شهر الخصب أكتوبر انتهى حافل ببشائر الديمقراطية و بموسم زراعي ناجح ،و اذ تحول الاستبشار الى كارثة الفيضان الذي دمر البلاد وروع العباد فان الاستبشار بالديمقراطية والحريات لا يزال قائما و سنقف جميعا شيبا وشباب ، نساءا ورجال سدا منيعا أمام كل مد تدميري رجعي قد يهدد مستقبلنا ومستقبل ابنائنا
محمد المناعي
نشر بالطريق الجديد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق