الخميس، 29 ديسمبر 2011

تونس الثائرة قراءة للواقع السياسي غداة رحيل الطاغية


محمد المناعي : 26 – 02 - 2011

شهر ونصف مضت منذ رحيل الطاغية ، مشهد مجتمعي شعبي وسياسي يحكمه الاضطراب و الارتجالية في الأداء بين الجميع . يطغى عليه من جهة ثنائية المطلبية الضيقة و المطالب المشروعة من جانب المجتمع وثنائية الشعبوية في الاستجابة ورد الفعل من جهة و محاولة الالتزام بالطابع التسييري البحت من جهة أخرى بالنسبة للحكومة المؤقتة و ثتائية حراك سياسي ناضج متمرس و جنيني ناشئ .
شعب حرم من الحرية لا منذ 23 سنة ولا منذ الاستقلال فقط بل منذ الأزل يصنع مجده وثورته ثورة الحرية والكرامة ...وثورته ليست ولن تكون بمجرد هروب الطاغية ثورة انطلقت مع ما تأسس في تونس من نفس حر تقدمي عقلاني واجه عواصف الاستبداد ومهد لوعي جماعي يستشعر الظلم يهادنه لكن لم يرضى به ...ثورة مهد لها شباب صنع وعيه ذاتيا تحت مضلة التسلط مستفيدا من نخب مستنيرة ترمي جذورها ولو باحتشام في ثنايا المجتمع في عمل النزهاء من المربين والصحفيين و النقابيين والطلبة والسياسيين ومكونات المجتمع المدني والقضاة والمحامين وكل من يحمل نفسا حرا في هده البلاد في مواجهة قوى صد وردة وقوى جذب للخلف من المجتمع والسلطة معا ... شعب لم ينسى يوما أن أجداده تحركوا لرفض الظلم العثماني والفرنسي والبورقيبي وما بعده ...شعب استلهم من ثورات الشعوب قاعدة أن الشعوب لا تهزم وان صوت الشعب إذا علا تخرس كل الأصوات ...
شعب خرج ضد الظلم في أحداث 1978 و انتفاضة الخبز وأحداث الحوض المنجمي ومحيطه وأحداث بن قردان وكان عصيا على الكسر والإندحار ...شعب يختلج بروح شابة مثقفة أبت الظلم و خيرت الاحتراق في سبيل الكرامة وجسد حجم العزة و الأنفة ما أقدم عليه البوعزيزي والعشرات من قبله ضد الظلم والاهانة ....
شعب علا بصوته منذ اليوم الاول " التشغيل استحقاق ياعصابة السراق " ويسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب " لم يكن عفويا فوضويا في مطالبه علا الصوت في سيدي بوزيد فكان صداه في في كل أنحاء البلاد وفي قلوب كل التونسيين حتى سقوط الطاغية .
شعب لا يطلب اليوم بل يسعى لتطهير البلاد من بقايا الدكتاتورية يعتبر الثورة مسارا للقطع مع الماضي لا بطوباوية تعتبر الثورة هي يوم او بضعة ايام بل يعتبر كل خطوة هي تسريع نسق القيام بالثورة واكتمال لها و انجاح لأهدافها ...
شعب ارتبك ، خاف ، تظاهر ، تشجع ، اعتصم ، تنفس الحرية ، طلب وطالب وانتهى الى ان تونس ديمقراطية هو الهدف الأسمى للجميع . قبل الحكومة رفضها قبل بها من جديد في تنوع رائع يكشف حراكا سياسيا في وجهه المشرق ويكشف تخبطا في فهم الواقع السياسي في وجهه الخلفي ...وكانت البلاد في الأثناء تسير سيرا طبيعيا لمؤسساتها ...طبيعيا بالنظر لعظمة الحدث الذي يمكن ان ينزلق بشعوب اخرى الى دكتاتورية عسكرية او فوضى طائفية او قبلية ...لكنه في تونس بدى لأول مرة وجه الحضارة خال من المساحيق شعب موحد حركي متنوع الطموحات والأفكار ...و طبعت المرحلة الانتقالية حكومة تمت مراجعتها و مثلت مركز اهتمام الجميع قبولا أو رفضا في أدائها وتركيبتها ..

حكومة ينظر لها بأنها تحمل في طياتها تناقضات وتختلف التقييمات حولها تحمل في صلبها رموز من نظام بن علي قد تورط جلهم أو كلهم في دوامة فساد نظامه في اطار الدولة وفي اطار الحزب وجدوا وجها لوجه مع عناصر مستقلة أو يبدو أنها كذلك وعناصر تنتمي لأحزاب مناضلة كالحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد جمعت بين موقف سياسي يمثل احزابها وموقف رموزها في الحكومة المدافعين عن خياراتها...
حكومة يطلب منها ان تكون شرعية و الجميع يعلم ان لا شرعية الا لما أفرزته صناديق الاقتراع ..يطلب منها أن يكون لها موقفا ما من ثورة مصر وليبيا و الجميع يعلم ان حكومات التكنوقراط والمستقلين الغير منتخبة من الشعب لا يطلب منها تمثيل الشعب او راي الشعب بل مجرد تسيير مؤسسات الدولة دون الخوض في برامج ومخططات متوسطة أو طويلة المدى.
حكومة تعثرت في تغيير الجهاز الاداري المركزي والجهوي والمحلي الذي بقي بملامح فترة بن علي وظهر ذلك جليا في اختيار الولاة السابقين و الحفاظ على عدة معتمدين و عمد و مديري مؤسسات وطنية و مندوبين ومديرين جهويين و السماح للمجالس البلدية المنبثقة عن قائمات تجمعية صرفة بتسيير العمل اليومي للبلديات وادارة شؤون المدن .
حكومة انبثقت عنها لجان عطلت محاسبة القضاء لمن أجرم في حق الشعب التونسي و تأخرت لجنة الاصلاح السياسي في اتخاذ خطوة جادة على طريق صياغة المستقبل السياسي لتونس حتى اجرائيا في التمهيد للتشاور بين جميع الأطراف .
حكومة في حاجة  للجلوس والتشاور من أجل صياغة مستقبل البلاد مع بقية الأطراف.
مثلت 14 جانفي مفاجئة للجميع سواء في السلطة أو في اتباع السلطة او في المعارضة الجدية و معارضة الشتات وفي معارضة الديكور ...

- تجمّع احتكر الدولة فكان سخط  الناس عظيم بين محاولات انتقام ومحاولات حل من طرف الصوت الغالب أو الصوت العام للناس بعد 14 جانفي ومن جهة قياداته منهم من فر مع الفارين ومنهم من شارك في الحكومة بعد أن تنصل من انتماءه لهذا الحزب ومنهم من اعتصم بالماضي النضالي للحزب ما قبل التجمع وعاد لشرعية الثعالبي وبورقيبة ومنهم من يعمل سرا وعلنا لإعادة تشكيل حزب بإخراج جديد ...بينما انخرط اتباع الحزب الذين تورطوا بمجرد الانتماء او الانتماء غير الفاعل في حمّام جماعي لتنظيف ماضيهم بتبني خطاب الثورة و التقرب من كل ما من شأنه ان ينسي الناس ماضيهم في حين اعتصم البعض بالحزن على امتيازات ولت و هلع البعض من التعري من كل حماية كانت سند للدوس على كرامة الشعب و الخشية من الانتقام على قاعدة ممارساتهم السابقة ...ومنهم الكثير من ضخ المال و "الرجال" لبث الفوضى والهلع و الاندساس بين المتظاهرين وحرق المصانع وفوق ذلك أصبح الحزب شماعة "شرعية" لتعليق كل الجرائم التي تتم سواء كان لأتباع التجمع ضلع فيها أولا .

- أحزاب ديكور مع انطلاقاتها المختلفة "ناضلت" من أجل اضفاء الشرعية على دكتاتورية بن علي البعض منها غيب لونه السياسي ليتماهى مع السلطة والبعض الأخر لم يكن له لونا أساسا فتمعش مع المتمعشين وهذه الأحزاب الديكورية هي حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب الوحدة الشعبية و الاتحاد الديمقراطي الوحدوي و الحزب الاجتماعي التحرري و حزب الخضر للتقدم احتوت بعض هذه الأحزاب تيار معارض لما كانت تمارسه من موالاة للسلطة والتلاعب بمصير البلاد من تكريس أكذوبة الديمقراطية والانخراط في دعم واقع استبدادي ...تعرض بعضها لإعادة هيكلة ومحاولة مراجعة سياسية و محاولة العودة للساحة وتجاوز الرفض الشعبي لرموزها ...

- أحزاب معارضة جدية مثلت في الحقيقة جبهات صد ومقاومة بمجهوداتها المحدودة ضد الدكتاتورية والاستبداد وكانت تدرك أن لا معارضة الا في اطار ديمقراطي بل تتحول القوى الديمقراطية الى جبهات رفض في ظل الاستبداد .لم تتعلل هذه الأحزاب بالواقع الاستبدادي للتنصل من مسؤولية افتكاك المنابر سواء عبر الصحف أو عبر البرلمان أو عبر مقراتها المحاصرة و مناضليها المطاردين قدمت تاريخا نضاليا ورغم بعض الهنات كانت دائما في صف الشعب وقضاياه حتى في أحلك حالات التغوّل القمعي و سعت لفتح منافذ لتيارات سياسية غير مرخص لها بالنشاط في شكل تحالفات وجبهات ...مثلت حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات هذه الأطراف الثلاثة المعارضة من داخل منظومة الدولة بتضحيات متفاوتة و زخم نضالي مختلف ...ولئن شكلت الطرف السياسي الأساسي الذي شارك في الحكومة باستثناء انسحاب السيد بن جعفر عن التكتل فان التجديد و الديمقراطي التقدمي واصلا العمل سياسيا في صفوف ارادة الشعب وفق تصور سياسي ينخرط في انقاذ المستقبل السياسي للبلاد و الحفاظ على سير دواليب الدولة بشكل عادي او يكاد في صلب الحكومة والقيام بدور المشرف المراقب على باقي الأطراف التي قد تنزلق بدور الحكومة الى غير ارادة الشعب ومكاسب الثورة ومن ناحية ثانية المساهمة في كل المشاورات الرامية لصياغة المستقبل السياسي للبلاد على مستوى التأسيس لدستور جديد و قانون انتخابي جديد و قانون صحافة و انجاح المراحل الانتخابية المختلفة التي تفضي اليها المشاورات والاستفادة من علاقاتها بجميع الأطراف السياسية المعارضة من خارج المنظومة الرسمية السابقة ومن خارج اطار الحكومة المؤقتة الحالية للتوصل لموقف وطني توافقي تشاوري حول المستقبل ...
- "الشتات الحزبي" المتكون مما لا نهاية له من الأطياف السياسية التي تتبنى مرجعيات مختلفة ماركسية و ماركسوية و قومية وقوموية والتي انطلقت في مسيرة التشتت منذ فترة الحكم البرقيبي منها من اشتد عوده و صاغ برامجه وبنى هياكله في ظل العمل غير المرخص والعمل السري تعرضت للقمع و التصفيات من النظام السابق بدكتاتوريه على راس هذه الأطراف حزب العمال الشيوعي التونسي الذي نال نصيبه من التجزئة كغيره و لم تحضا هذه التشكيلات السياسية بهامش من المشاركة العلنية في الحياة السياسية ولم تعمل على توحيد صفوفها بقدر ما انخرطت في صراعات زعاماتية و انقسامات لأسباب نظرية ايديولوجية تفصيلية أو لأسباب شخصية ساهم النظام الحاكم في اذكاء بعضها و ساهم غياب فرصة الاختبار على محك الواقع في تكريس التجزئة في الاعتصام بالنظري رغم محاولات التجديد التي حاولتها بعض التيارات على خلفية سقوط الإتحاد السفياتي و سقوط نظام البعث في العراق وتردي الأنظمة القوموية والماركساوية في العالم العربي وفي العالم الى الدكتاتورية والانخراط في منظومة العولمة ...
وانطلاقا من هامش الحرية الواسع برتبة مطلق الذي انبثق عن الثورة التونسية انبثقت أحزاب وحركات ولملمت عائلات سياسية ما تبقى من مناضليها و ظهرت على الساحة تبحث عن فرص للمشاركة في صياغة المستقبل السياسي لتونس ببضعة أفراد و بيان وصفحة على الفايسبوك شارك البعض من هذه الأطياف الممثلة للشتات الحزبي في جبهة 14 جانفي المتذبذبة بين الشرعية الدستورية بقبولها برئيس الدولة المؤقت و الشرعية الثورية ومطالبتها باسقاط الحكومة في مأزق واضح حول البدائل ...كما انخرط هؤلاء واخرون في مجلس لحماية الثورة في تحالف عجيب بين أحزاب مناضلة و شتات باحث عن الظهور من جهة وبين قوى يسارية واخرى دينية و  بين قوى تقدمية ديمقراطية و قوى تمجد الزعامات و القوى "الشورية" هذه القوى السياسية الباحثة عن الحكم ،  الممارسة صراحة للسياسة تتحالف تحالفا أكثر غرابة مع منظمات نقابية مهمتها ليست الصراع على السلطة ومنظمات حقوقية و قضائية ليس دورها بالمرة الجهر بمواقف سياسية في وقت يسعى فيه الجميع الى " فرز" التداخل في الأدوار الذي طبع المراحل السابقة و التأسيس لتعامل وسلوك ديمقراطيين بدونهما لا يمكن التأسيس للديمقرطية ...ومن احزاب الشتات التيارات الزعاماتية  الشمولية في مرجعياتها والتي منها من يستلهم فكره من تجارب تحولت الى دكتاتوريات قمعية استبدادية سواء تجربة عبد الناصر في مصر أو تجربة صدام حسين بالعراق أو تجربة " البعث التوريثي" في سوريا ومنها من مجد مجرم الحرب معمر القذافي و التي باستثناء بعض أطيافها التي صاغت مراجعات صارمة فكرية وسياسية لم يكن لأغلبها فرصة لم الشمل و حافظت على رؤى السبعينات والثمانينات .

-   التيارات الدينية التي منها من يدعو الى الشورى و منها من يدعو الى الخلافة أصلا ومنها من يدعو الشعب التونسي الى الاقتداء بتجارب مر عليها اكثر من الف عام تحاول استرجاع مكانتها في صلب المجتمع عبر استثمار الماضي القمعي والاقصائي الذي تعرضت له والمطالبة بموطئ قدم بالجوامع و المدارس والمعاهد والجامعات والجمعيات القرآنية و على منابر وسائل الإعلام وامتطاء صهوة الديمقراطية رغم " بدعيتها " لكن من باب "سد الذرائع " ومن باب "الضرورات تبيح المحظورات" في تنكر للديمقراطية نصا وامتطائها ممارسة ...
ان مستقبل تونس يقتضي سلوك ممارسة عقلانية تتعالى عن الشعبوية في الاستجابات الممجوجة للمطلبية الشائعة و التواضع في نفس الوقت عن النخبوية المتعالية عن طموحات الشعب وفهمه خدمة لبرامج الأطراف السياسية وتجنب السقوط في الترضيات السياسية وتمرير البرامج ...
و صياغة مستقبل سياسي لتونس يقتضي الاتفاق المبدئي حول ثوابت مدنية الدولة ومدنية الأحزاب السياسية والاتفاق حول الاقتراع العام الديمقراطي المباشر كآلية لبلوغ السلطة وللتداول عليها في اطار تعددي ...مع  الفصل بين السلطات الثلاثة وتنظيم العلاقة بينها وضمان استقلالية القضاء و اعلام حر واعتبار المواطنة هو القاسم الوحيد المشترك بين التونسيين بقطع النظر عن كل تمييز ديني او عرقي او جنسي او طائفي وهو ما يحيل حتما الى المساواة بين المرأة والرجل الكاملة و ضمان حرية المعتقد والتفكير ...ولن يكون ذلك الا بالتشاور بين جميع الأطراف حول الخطوات العملية الترتيبية لصياغة دستور وذلك عبر التشاور حول لجنة لصياغة قانون انتخابي استثنائي يمثل الاطار القانوني لإجراء انتخاب مجلس تأسيسي توكل له مهمة تعيين حكومة انتقالية و صياغة دستور و منه التمهيد لانتخابات ديمقراطية  وفق نظام الحكم الذي يعرض على استفتاء شعبي ...ويبقى دور المنظمات الوطنية على راسها الاتحاد العام التونسي لشغل و الهيئات الممثلة للقضاة والمحامين ورابطة حقوق الانسان وغيرها دورا رقابيا اشرافيا داعما للمسار الديمقراطي التقدمي غير منخرط في الصراع السياسي الحزبي الضيق .
وتبدو مهمة الجميع في المستقبل القريب افرادا ومنظمات محاولة التأسيس لوعي سياسي لدى الشعب عبر عقد ندوات ومنتديات حوار يشارك فيها الجميع تأسيسا لقيم الحوار البناء وقبول الأخر و تأهيلا للمحطات والاستحقاقات الانتخابية القادمة  من اجل تونس حرة ديمقراطية تقدمية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق