الخميس، 29 ديسمبر 2011

الديمقراطية والإقصاء


بقلم : المناعي 18 أكتوبر 2003
لا تنفك الإنسانية تبحث عن نماذج تسييرية تنظّم بها علاقاتها وتحدد بها نظرتها لذاتها وللأخر ، وإذ تتعدد النماذج والنظريات في هذا الصدد فان للبشرية مخزون تستلهم منه في الغالب أسس نظرياتها في شكلها الموسّع وتضيف إليه من خصوصياتها ما قد يثري النظرية أو يشكل انحرافا عنها ، وما ينفك العقل البشري يثري المخزون الإنساني بنماذج ومقترحات تتخذ الصبغة الخلاصية فتجد لها بين العقول سوقا لترويجها فتضحي إيديولوجيا وتبتكر لذاتها من خلال معتنقيها أسسا واقعيا وطرائق تطبيق هي همزة الوصل بين الفكر المجرد والواقع المعاش فيكون للواقع بالتالي مكانه و إضافته للنظرية كما يكون للنظرية عثراتها الواقعية التطبيقية فيلجأ حملتها للتحوير والتطويع تماشيا مع الواقع وانتصارا للنظرية في آن...
ولعل الديمقراطية من أقدم وأعرق أشكال التنظيم والتسيير السياسي والاجتماعي التي عرفها البشر كما أنها بالنسبة لعالمنا العربي المعاصر من أخر أشكال التنظير للتنظيم التي تم الخوض فيها بعد فكرة الليبرالية والفكر الوحدوي القومي والفكر الثوري والاشتراكي...والتي كانت الديمقراطية في خضم هذه الخيارات التي سادت مجرد أداة للتسويق السياسي وواجهة تخفي واقعا دكتاتوريا تحولت معه الليبرالية إلى جشع لتحالف السلطة مع رأس المال و تحولت معه التجارب الوحدوية من بناء صرح وحدوي للشعوب إلى بناء صرح دكتاتوري على جماجم الشعوب في محاولات مضطربة وارادات متسرعة لم تفلح في تخليص الأوطان من الاستعمار فزادت مع الاحتلال تحويل الأوطان الى سجون فسيحة تضيق أمام الرغبة المتواصلة في الحرية والانعتاق ...كما تحولت بعض التجارب الثوروية إلى أنظمة عسكرية تخوينية حكمت الشعوب بالحديد والنار ...
وإذ أثبتت التجارب عدم تقبل العرب لنماذج مشوهة من الاشتراكية والوحدوية العروبية في نسختها الدكتاتورية التوسعية فقد اتجه الاهتمام للفكر الديمقراطي كشاغل أساسي اليوم وكحل مرجو من فئات واسعة من الأنتلجنسيا العربية وكحل للتخلص من مأزق الأصولية بشقيها الديني والإيديولوجي وطبعا المأزق المستحدث وهو الإرهاب والتنظير للعنف ... .
لا شك ان الديمقراطية في الأصل صيغة وضعية من ابداع الانسان وهو ما ينزع عنهما كل قدسية من حيث المبدأ غير أن القداسة التي يتم إضفائها على هاته  النظرية هي على النمط ألاعتقادي الماورائي مأتاه الوثوق والاعتقاد في المجرّد واللامادي أي اللاّ متجلي في الطبيعة وهذا لا يخلو من أصولية ووثوقية ويحول الفكر الى إيديولوجيا و يحول الديمقراطية الى ألية ثابتة بل ميتة غير متأثرة بتغير الواقع الذي يتم تنزيلها فيه الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي و التنوع الفكري و العرقي والطائفي ...
تطبيقيا واجرائيا تبدوا الديمقراطية  ممارسة طوعية لجميع الأطراف المتدخلة وبعتبارها من حيث المبدأ تكفل الحرية لجميع الأطراف فان انعقادها وتحولها الى واقع يبقى رهين موافقة الجميع في اطار عقد يعتبر لاغيا بمجرّد حياد أحد الأطراف عن دوره ... ولما كان الإجماع حول فكرة من طرف مجموعة بشرية مهما كانت متجانسة مسألة طوباوية مغرقة في المثالية فإن ديمقراطية تطبيق الديمقراطية يجعل منها تحفر قبرها بنفسها ، ذلك أن مسألة اختيارية الديمقراطية يجعل من الاجماع حولها من قبيل الوهم ويجعل منها منظومة رضائية لا تتخذ الطابع الالزامي مما يطرح صعوبة انزالها من الطور النظري الى الطور الواقعي أمرا في منتهى الصعوبة تضاهي صعوبة تحصينها والمحافظة عليها وضمان استمراريتها ..
لذلك يبدو خيار الديمقراطية اذا ما اتخذ أمرا ضروريا أن يتحول إلى ميثاق إلزامي يحتوي الجميع على قاعدة احترام قواعد اللعبة الديمقراطية وأصول المشاركة والتعدد واحترام قرار وخيار الأغلبية دون اقصاء ...لكن في ذات الوقت اقصاءا بلا هوادة كل طرف يحمل في برنامجه ما يناقض الديمقراطية و يهدد مبدأ المشاركة والتعددية وحرية الاختيار سواء باستهداف المؤسسات الديمقراطية الممثلة للشعب أو استهداف مبدأ اختيار الشعب لقوانينه و محاولة فرض قوانين فوقية حتى وان بدت للبعض أنها الهية يهدد الديمقراطية كآلية وضعية بشرية لا تفترض وصاية من غير الشعوب صاحبة الشأن...كما تعمل بعض التجارب بطوباوية في التعامل مع الديمقراطية بفتح  المؤسسات أمام ما يناقض الديمقراطية خطابا وممارسة كالتحزّب على اساس جنسي او عرقي وخاصة على اساس ديني في محاولة لتحويل شعور ذاتي شخصي الى برنامج سياسي او في محاولة لفرض ما يعتقده البعض انه مقدس لا نقاش فيه على البقية بشكل يجعل من الاعتراض والنقاش والنفي أمرا غير متاح أمام الصبغة القدسية للبرامج السياسية في حلتها الدينية ...
إن الديمقراطية يمكن إن تتحول إلى مطية لأعدائها يلتفون بها عليها يلبسون حلّة الديمقراطية يخفون بها جبة التطرف فلا مجال للتحزب الديني او الطائفي او العرقي او القبلي في النظام الديمقراطي الذي يبنى حتما على أساس المواطنة والمواطنة فقط .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق