الاثنين، 28 مايو 2012

غياب المحاسبة يجعل من الثورة مجرد تحوّل


غياب المحاسبة يجعل من الثورة مجرد تحوّل
بقلم : المناعي

بعد أكثر من سنة على انطلاق الثورة،لا يزال التجاذب قائما بين القوى السياسية في البلاد حول من تورّط ومن ناضل ومن صمت ومن أجرم ومن تضرر ... وإذ لا يخلو هذا التجاذب من مزايدات لا تخفى على احد ، فان ارادة الحسم في قضية المحاسبة تضل غائبة و تضل تركة التجمع والنظام الحاكم في تونس قبل الثورة محل تنافس وتسابق لا على المحاسبة و التصفية بل على نيل أوفر نصيب من الرصيد البشري و المادي لهذه المنظومة الفاسدة والمتشعبة بل الى حد العمل على استعادة طرق تعاملها مع الإدارة والإعلام والمعارضة و المجتمع من طرف السلطة الانتقالية الجديدة في اعادة انتاج للأسلوب الهيمني ولخلط الدولة بالحزب والأمن بشبكة موالين كما دأب على ذلك نظام بن علي ، في حين تحولت قوى حزبية من اليمين الى اليسار تخطب ود التجمعيين طمعا في الإستقواء بهم في مواجهة تغوّل القوة السياسية الأولى في البلاد اليوم .
ان المأزق الذي وضع فيه الجميع اليوم يعود لغياب المحاسبة وتعطل مسار العدالة الانتقالية مما فتح الباب على مصراعيه للاتهامات المتبادلة و للتهم التي توجه من الجميع إلى الجميع فالحزب المهيمن على السلطة اليوم والذي لا يفوت أي فرصة للتذكير بالسجون والتنكيل الذي تعرض له في العهد السابق لم يتردد في الاعلان مبكرا على أن التجمعيين وحتى الرموز منهم والذين لم يثبت تورطهم قضائيا مرحب بهم في الحركة و اليوم بوصوله السلطة لم يتوانى في المحافظة على رموز ادارية وسياسية شغلت مناصب بارزة مع بن علي من ولاة ومعتمدين ورؤساء مصالح بالوزارات ليصل الأمر الى ترقية بعضهم ...و رغم انشاء وزارة لحقوق الانسان والعدالة الانتقالية لا يزال الى اليوم ملف الفاسدين والمتورطين في قتل الشهداء لم يفتح جديا بل راس الفساد تم غض الطرف عنه واعتباره مسالة ثانوية مقابل علاقة الصداقة مع المملكة السعودية ، كما لم تنجح السلطة الجديدة في استعادة الأموال المنهوبة من عائلة الرئيس السابق و أصهاره وشركائه وأصحاب رؤوس الأموال الذين مثلوا  ذراعه الاقتصادية في النهب والسيطرة والاستغلال ويبحثون اليوم عن موطئ قدم مع الحكام الجدد الذين لم يحركوا ساكنا في قضايا التهرب الضريبي والفساد المالي والإداري والصفقات المشبوهة التي تنخر الاقتصاد الوطني .
لا شك أن مسألة المحاسبة تطرح عدة اشكالات ورهانات لا بد من طرحها ورفعها وصعوبات لا بد من تذليلها فلا يمكن فتح ملف الفساد في الادارة و الإعلام والمنظمات والجمعيات و الرياضة و الفلاحة والسياحة و التعليم وغيرها دون فتح الملف الأول وهو القضاء ...اذ لا يمكن الاصلاح بقضاء مخترق بعناصر فاسدة الجميع يقر بوجودها ولا أحد يتحمل تبعات الخوض فيها ، وفي غياب قضاء مستقل تشريعيا وفعليا و محاسبة تقطع مع التخوين الذي يرفع في الوجوه على القياس وحسب الوضعية يضل الوضع محل مزايدات متواصلة ترفع فيها تهمة الفساد ضد كل من لا ينخرط في الركب الجديد و تسقط عن أخرين مقابل تقديم رسوم الطاعة ...و الحال أن ارادة اصلاح القضاء تمر حتما عبر تشريك الهياكل الشرعية الممثلة لسلك القضاة و مجموعة ضيقة من القضاة النزهاء باجماع زملائهم للبت في الملفات العالقة و اقتراح الطرق الأنسب للخروج بهذا القطاع الحساس من دائرة التجاذبات .
الرهان الثاني الواجب رفعه وهو ضبط مستويات من موضوع المحاسبة تنطلق بالعاجل منها وهم قتلة شهداء الثورة و المتسببين في اصابات جرحاها ولا يمكن أن تطوى القضية بدون محاكمة المسؤولين المباشرين عن هذه الجرائم و تكريم الشهداء و معالجة الجرحى وتعويض العاجز منهم. والمستوى الثاني كل من تورط ماليا أو سياسيا في النظام الدكتاتوري واستغل جهاز الدولة لمصالح شخصية ومارس القمع والتعذيب وذلك بالمحاكمة العادلة و معاقبة كل من تورط في التعذيب والتغريم المادي لكل من تمعش ماليا بطريقة مباشرة او غير مباشرة من النظام العائلي السابق واسترجاع المال المنهوب في الداخل والخارج في المقابل تكريم السجناء السياسيين دون الدخول في مقايضة نضالهم بالتعويض المالي مع اعطاء الأولوية في الشغل والمساعدة الاجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة منهم ، الطبقة الثالثة من المحاسبة تشمل الحقبة الممتدة للحكم البرقيبي والتي يترتب عنها من بين ما يترتب اعتذار عن سنوات قمع اليساريين واليوسفيين والنقابيين والطلبة وتعذيبهم وكشف الحقائق وتكريم شهداء جميع الأحداث و المحطات النضالية ضد الدكتاتورية و مراجعة علمية متأنية لتاريخ البلاد تعيد لكل من تم تهميشه لحسابات سياسية المكانة التي يستحقها .
ان الحسم في اصلاح القضاء يعتبر مدخلا ضروريا لتفعيل العفو التشريعي العام وخاصة الفصل بين العقوبات ذات الطابع السياسي والعقوبات الفعلية ذات الطابع الاجرامي او الارهابي التي يمكن أن يكون قد اقترفها نشطاء سياسيون في فترة زمنية معينة ، كما ان قضاء مستقلا هو الفيصل في الحسم في قضايا الفساد المالي والاعلامي والاداري و اصلاح ما أفسدته السنين عبر محاكمات عادلة بدونها لن تتحقق مصالحة وطنية وبدونها يضل الاتهام بالتبعية للنظام السابق والمزايدة بالثورية سيدة الموقف في كل القطاعات التي ينخرها الفساد .
يعتبر التلازم بين المحاسبة والمصالحة كما التلازم بين المحاسبة و المسار الثوري ذاته ، ذلك أن لا ثورة دون قطع مع الماضي و لا بناء للمستقبل دون تفكيك تركة الماضي و اعادة بناء مؤسسات ديمقراطية تحمي المجتمع من خطر التداول على الدكتاتورية بنفس الجهاز و نفس الممارسات ونفس المنظومة وعليه فإن غياب المحاسبة يجعل من الثورة مجرد انتفاضة أدت الى تحول في أعلى هرم نفس منظومة الفساد والاستبداد .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق