الأحد، 15 يوليو 2012

الانفلات في المساجد التونسية وعجز سلطة الاشراف



الانفلات في المساجد التونسية وعجز سلطة الاشراف
محمد المناعي
حلقة جديدة من حلقات الانفلات والعنف داخل المساجد شهدتها مدينة صفاقس في جامعها الكبير بعد ان عمدت مجموعة من الأفراد الى السطو على المسجد و الاستيلاء عليه بتغيير أقفاله ومنع امام الجمعة من اعتلاء المنبر وأداء مهامه ، كما عزلت امام الصلوات الخمس و ما صحب ذلك من تشنج وعنف متبادل داخل حرم الجامع و تحويله من فضاء للتعبّد مجمّع للمؤمنين الى فضاء للعنف السياسي والتجاذبات الايديولوجية ، هذه الأحداث تعيد من جديد الجدل حول تحييد دور العبادة عن الصراعات السياسية وحمايتها من المجموعات الاجرامية التي يمكن ان تعطل سير نشاطها وسلامة موظفيها و روادها .كما تطرح دور سلطة الاشراف و تهاونها في فرض القانون والمسك بزمام الأمور لإنهاء حالة الانفلات التي تردت فيها مساجدنا و الفضاء المشترك عموما .
يعتبر توظيف دور العبادة في تونس ليس بالأمر المستجد فقد مثلت المساجد اطارا للدعاية السياسية في العهد السابق بل لعبت حتى دورا أمنيا في تتبع المشبوهين و الاعتداء على حرية الفكر والمعتقد والانتماء السياسي ، بعد 14 جانفي من الطبيعي ان تحدث فوضى داخل المساجد وان يعمل روادها على اتخاذ موقف من الامام اما بالتثبيت او بالعزل خاصة في ظل غياب الدولة وحالة الانفلات العامة ، غير أن الملفت أن الفوضى سرعان ما اتخذت صبغة ايديولوجية وتحولت المساجد الى غنيمة و موطئ قدم لتيارات متشددة و أطراف سياسية ترى في المسجد امتدادا للحزب لنشر وجهة نظر معينة للدين والمجتمع والمرأة و السياسة و الاقتصاد والفن وغيرها وحتى هتك اعراض الناس والتدخل في شؤونهم الخاصة و توزيع صكوك الايمان والكفر على غير منهج .
لم تنجح مؤسسات الدولة في تجاوز عمليات الاستيلاء على دور العبادة وتحويلها الى فضاءات للتنازع المذهبي ولنشر الفتنة والفكر المتشدد الوافد من الدكاكين الفضائية الوهابية وغيرها وتواصلت المحاصصة بين من يركبون الدين لتبليغ فكرة سياسية الى درجة انخراط السلطة ذاتها في هذا النهج حيث يقوم أحد موظفيها الساميين برتبة وزير بامامة الناس لأداء صلاة الجمعة والحال أنه موظف مكلف بتطبيق برنامج الحكومة الذي صادق عليه المجلس التأسيسي برنامجا يهم جميع المواطنين على اختلاف مشاعرهم و ايمانهم واعتقادهم لا ترك ذلك و الجمع بين مهمتين مهمة سياسية ادارية ومهمة دينية ارشادية ، هذه اللخبطة ساهمت فيها السلطة بان نزلت الى الجوامع لتدعو الناس وترشدهم و جاءها الرد من منافسيها بان احتلوا بدورهم مساجد وروجوا لأنظمة حكم بدائية و كفرو المجتمع ودعوا في المنابر الى زعماء ارهابيين أمثال الظواهري وبن لادن وغيرهما كما حدث في جهة جندوبة اضافة الى الدعوة الى قتل رجال الأمن كما حدث بجامع الرحمة بنفس الجهة ولم تحرك وزارة الاشراف ساكنا سوى بالبيانات ومنها بيان 16 جوان الذي اشارت فيه الوزارة الى امكانية الإلتجاء لوزارة الداخلية لفرض القانون و اعادة الأيمة والاطارات الذين عينتهم الدولة .
لم تفلح لا بيانات وزارة الشؤون الدينية ولا تهديداتها بتطبيق القانون دون تطبيقه في الخروج من مأزق الانفلات داخل دور العبادة بل اكثر من ذلك أصبحت المجموعات التي تدعو للعنف تتحدى السلطة والوزارة والوزير نفسه كما حدث في مسجد حي الغزالة حين مني الوزير بفشل ذريع في التوسط لإعادة موظف من وزارته تم عزله من طرف مجموعة متشددة وبلغ الأمر حد " سرقة حذاء الوزير " في مشهد كاريكاتوري لهيبة الدولة و سيادة القانون ، وتواصل الأمر مع امام جامع الزيتونة الذي تورط في الدعوة الى اهدار دم الفنانين و تدخل في شان لا يعنيه وحرض على القتل ورفض قرار العزل الذي صرح به المستشار السياسي لوزير الشؤون الدينية وتحدى الوزير نفسه وعاد الى المنبر في الجمعة الموالية بل و نبه الوزير من مغبة التدخل في شؤون جامع الزيتونة .
هذا التسيب والتطاول على القانون لم يواجه سوى بالصمت والبيانات المنددة والحال ان اوكد مهام وزير الشؤون الدينية تدعيم اشراف الدولة على دور العبادة وفتح فضاءات للحوار بين هذه التيارات ذات الفكر الوافد المتشدد لا اهدائها المنابر لغسل أدمغة الشباب بترهات قروسطية لا علاقة لها بسماحة الدين الاسلامي ولا باعتدال الشعب التونسي وايمانه بالحرية ، بل ان وزارة الشؤون الدينية انخرطت في التجاذبات واصبحت طرفا في التنازع نتيجة تصريحات مسؤوليها ، على غرار العزم على التصدي لمذهب ديني اسلامي يؤمن به جزء من هذا الشعب تاريخيا وهو المذهب الشيعي في المقابل فتح المنابر امام دعاة شرقيين يستهزؤون بمكتسبات الشعب التونسي و يكفرون الديمقراطية التي ناضل من اجلها أجيال ، كما انخرطت في شأن لا يعنيها وهو تقييم الأعمال الفنية وتجريم الابداع بتعلة التعدي على المقدسات في حين تنتهك حرمة المساجد يوميا بالدعوة للعنف بل بالعنف ذاته اللفظي والمادي .
ورد في القرآن: و أن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا ( سورة الجن ) في دعوة واضحة لصيانة حرمة المساجد و بيان وظيفتها الأساسية كفضاء لممارسة العبادة غير أن أول من تجاوزه هم من يتدثرون بعباءة الدين لتمرير برامج سياسية و تبرير العنف و الاعتداء على الحريات ، مهما يكن من أمر فإن السلطة مدعوة لتفعيل مراقبة تطبيق القانون في المساجد انطلاقا من أمن المصلين الى أمن الاطارات العاملة بالمساجد من أئمة ومؤذنين ومرشدين وغيرهم وخاصة ضمان تحييد هذه الفضاءات عن كل دعاية حزبية او مذهبية وعن كل دعوة للعنف والتباغض دون المساس بالحريات الفردية كالانتماء السياسي او المذهبي بشكل يقوم المسجد بدوره كفضاء جامع لا فضاء للصراع و التنازع الإيديولوجي والسياسي .
14 جويلية 2012

الخميس، 12 يوليو 2012

من تاريخ اليسار التونسي : الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي شاهد على عراقة العمل النقابي والنضال اليساري بالبلاد التونسية


من تاريخ اليسار التونسي :
الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي شاهد على عراقة العمل النقابي والنضال اليساري بالبلاد التونسية
محمد المناعي
تعود بدايات العمل النقابي بالبلاد التونسية الى حوالي قرن من الزمن وهو شاهد على تجذر فكر الدفاع عن الطبقات الكادحة في هذه البلاد حيث كان اليسار قاطرة الحراك النقابي والتاطير العمالي و ساهم بفعالية في الحركة الوطنية عبر اجنحته السياسية المتمثلة خاصة في الحزب الشيوعي التونسي و اجنحته النقابية المختلفة وفي مقدمتها الاتحاد النقابي لعمال القطر التونسي فضلا عن المساهمة عبر الانتاج الفكري والأدبي واصدار الصحف والنشريات و مواجهة الغطرسة الاستعمارية و تجذير فكرة الوطنية والاستقلال في اذهان أجيال النصف الأول من القرن العشرين .
رغم المحاولات الأولى للعمل النقابي يقترن الظهور الفعلي للدفاع عن العمال بنهاية الحرب العالمية الأولى امتدادا للحراك النقابي الفرنسي وباقتسام بين قوى اليسار حيث هيمن الاشتراكيون على الكنفدرالية العامة للشغل والمعروفة اكثر ب س ج ت .
وهيمن الشيوعيين على الكنفدرالية العامة للعمل الموحد و انعكس ذلك بدوره على الانتماء النقابي للتونسيين .
بعد بعث محمد على الحامي جامعة عموم العملة التونسية سنة 1924 تباينت مواقف النقابات الفرنسية منها ففي حين رفضت الس ج ت التعامل مع الحامي ساند الشيوعيين التجربة الوطنية في العمل النقابي و شارك عدد منهم في تاسيس جامعة عموم العملة . وكانت سنة 1926 سنة القمع الذي طال الأطراف الشيوعية النقابية والسياسية فتم القبض على زعماء جامعة عموم العملة التونسية و قيادات الحزب الشيوعي التونسي ودخل العمل النقابي في ركود الى حين صدور مرسوم الباي لسنة 1932 الذي يسمح بعودة العمل النقابي .
في فرنسا توحدت الحركة النقابية سنة 1936 تحت اسم الجامعة العامة للشغل و توحدت ايضا امتداداتها في تونس حيث اغتنمت النقابات التونسية صعود الجبهة الشعبية اليسارية للحكم بفرنسا لتكثيف نشاطها خاصة ضمن الفرع التونسي للجامعة العامة للشغل الذي توحد بدوره بنصيب الثلثين للإشتراكيين والثلث للشيوعيين وبرز في تلك الفترة النقابي الشهيد فرحات حشاد .
خلال الحرب العالمية الثانية برزت العناصر النقابية الشيوعية الأكثر مدافعة ضد النازية مما دعم مكانتها في الفرع الجامعي بتونس انعكس ذلك على موازين القوى في المؤتمر الذي انعقد 18 و 19 مارس 1944 و خرج بقيادة ذات أغلبية شيوعية ب 17 من ضمن 21 مقعدا و قد ترشح حينها فرحات حشاد كنقابي مستقل مدعوم من نقابيي صفاقس ولم يسعفه الحظ رغم نشاطه الكثيف وهو ما يحسب ضد المجموعة الشيوعية التي لم تسعى لإستقطاب العناصر النشيطة المستقلة .
مثل فوز الشيوعيين في مؤتمر مارس 1944 بداية التفكير الجدي في منظمة نقابية وطنية وهو ما تحقق في 26 و 27 أكتوبر 1946 حيث انعقد المؤتمر التأسيسي للإتحاد النقابي لعملة القطر التونسي و ذهب الأغلبية الى خيار الاستقلالية بعدد 388 صوت مقابل تفضيل 80 صوتا البقاء ضمن الجامعة العامة للشغل الفرنسية وافرز المؤتمر انتخاب حسن السعداوي رئيسا وهو القيادي في الحزب الشيوعي التونسي كما ضم المكتب التنفيذي عدة اسماء امثال الحبيب الدلاجي وبلحسن الخياري وعمر البلوشي واحمد زربوط .
أقر المؤتمر التأسيسي للأتحاد النقابي لعملة القطر التونسي ميثاق الوحدة النقابية مع الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تأسس في 20 جانفي من نفس السنة 1946 .
انعقد المؤتمر الثاني أيام 10 و 11 جوان 1949 بعد ثلاث سنوات من العمل المشترك والتنسيق بين الاتحاد النقابي و الاتحاد العام التونسي للشغل و بعد تعزيز صفوفه بقيادات نقابية بارزة امثال عمر فيالة والحاج علي ( عمال الرصيف )و عمار بن علي بن عمار ( المناجم ) ومحسن علجية ومحمد ونيس ومحمد التوزرطي وبشير المبروك وغيرهم ،هيمن على المؤتمر موقف التوحيد مع الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تم فعليا سنة 1956 حين بادرت القيادة على راسها المناضل الشيوعي حسن السعداوي الى توحيد الصف النقابي و الانضمام للإتحاد العام التونسي للشغل قبل ان يتوفى في ظروف غامضة (قيل انها نوبة قلبية )بمركز للشرطة في 12 فيفري 1963 بعد حظر الحزب الشيوعي التونسي ( حركة التجديد حاليا ) و اعتقال قياداته في جانفي 1963 .
اليوم يفتخر عمال تونس بحركة نقابية متجذرة ومتنوعة كان لليسار التونسي الدور الفاعل في تاسيسها وفي قيادتها وكان لها الدور الأساسي في الحركة الوطنية وتحرير تونس وبناء الدولة الحديثة كما كانت حاضنة الحراك السياسي و في طليعة الدفاع عن الحريات والعدالة الاجتماعية مجسدة اليوم في الاتحاد العام التونسي للشغل الذي ينهل من روافد نقابية عريقة تمتد جذورها الى بدايات القرن العشرين .

المصادر : الطريق الجديد ، العدد 72 ، 26 فيفري 1983 .
الطريق الجديد : العدد 71 ، 18 فيفري 1983 .
عبد السلام بن حميدة الحركة النقابية الوطنية للشغيلة بتونس 1924- 1956
مصادر مختلفة .
12 جويلية 2012

الأربعاء، 20 يونيو 2012

بمناسبة نهاية الموسم الدراسي : اصلاح المنظومة التربوية رهان أساسي لإنجاح المسار الديمقراطي


بمناسبة نهاية الموسم الدراسي : اصلاح المنظومة التربوية رهان أساسي لإنجاح المسار الديمقراطي
محمد المناعي
20 جوان 2012
ينتهي هذه الأيام موسم دراسي بعد سنة مليئة بالاحداث طبعها مناخ سياسي واجتماعي و أمني غير مستقر وتواترت فيها الاحداث انطلقت بالاعتداء على المؤسسات التعليمية ورجال التعليم و انتهت بجريمة تسريب امتحان وطني لا تزال ملابساته غير محسومة ، هذه السنة الدراسية تميزت كذلك بعودة الحراك النقابي و التجاذب بين قطاعي التعليم الأساسي والثانوي ووزارة الاشراف اعلنت خلالها أربعة اضرابات وطنية نفذ منها اثنان بنجاح و الغي منها اثنان اعادت طرح الحوار حول الإشكاليات المزمنة للقطاع وللمنظومة التربوية بشكل عام التي لا تزال على غرار بقية القطاعات تحت وطأة  الفساد الاداري و الارتجال في التسيير والقرار وتهميش الفاعلين الأساسيين و غياب اي مشروع جدي للإصلاح لقطاع كان رجالاته ونقابييه في الصفوف الأولى في الثورة التونسية مساندة للاحتجاجات وتأطيرا لها و تصحيحا لمسارها وحماية للمدرسة والمعهد والتلميذ و اصرارا واضحا على انجاح السنة الدراسية الاولى والثانية في ظروف أمنية متردية .
تبدو المسالة الأمنية زائلة وظرفية امام الأزمة الهيكلية التي تردت فيها المنظومة التربوية التي تراكمت مشكلاتها مهددة المدرسة العمومية العصرية و الحديثة التي كانت هدف أجيال من التونسيين منذ الاستقلال ، فقد عملت الخيارات السياسية في عهد الاستبداد الى تسييس المدرسة والبرامج التعليمية وافراغها من محتواها والحياد التدريجي عن مشروع المدرسة العمومية العصرية المجانية الديمقراطية والمتطورة .ان تناول مسألة المنظومة التربوية يجب أن يمر عبر تشخيص شامل ومتكامل للمشكلات المطروحة كمدخل أساسي لاقتراح الحلول الممكنة ولا يتم ذلك دون تشريك جميع الأطراف المتدخلة انطلاقا من المعلم والأستاذ بالاضافة الى الولي والتلميذ و المتفقد و الخبير والمختص في علوم التربية وصولا الى نقابات التعليم ووزارة الاشراف في حوار وطني شامل حول الموضوع والانطلاق الجدي في معالجته.
وتبدو الحلقة الأولى للشروع في هذا التشخيص والاصلاح مفقودة مع غياب توافق بين ممثلي رجال التربية و سلطة الاشراف و نزعة احتكار التدخل في الشان التربوي والاقصاء التي لا تزال تطغى على المشهد منذ عقود الى اليوم...وهو ما يحول دون طرق بقية المشكلات المتشعبة و أبرزها على المستوى الهيكلي اختلال في الخارطة التربوية التونسية بين الجهات على غرار الاختلال التنموي الذي يطبع البلاد عموما ففي حين تتوفر بعض الجهات على تجهيزات متطورة وبنى تحتية تعليمية كافية تعاني جهات أخرى وأغلبها ذات طابع ريفي من التهميش وغياب الظروف ألائقة بل الدنيا للقيام بالعملية التربوية وهو ما يطرح مسالة العدالة بين الجهات في الاستثمار في التعليم وديمقراطيته ويحيل هذا مباشرة على دور الدولة المستثمر الأساسي في مجال التعليم باعتباره القطاع الحيوي الذي يؤثر على بقية القطاعات سلبا وايجابا لذلك ظل الدفاع عن مكسب المدرسة العمومية المجانية عنصرا اساسيا في نضالات المعلمين والأساتذة منذ عقود وخاصة في ظل انتشار التعليم الخاص والموازي وما يمثله من عملية تسليع للمعرفة والتعليم و ضرب تكافئ الفرص بين الجميع وتكريس الفوارق الاجتماعية في مجتمع لا يزال التعليم يمثل مصعدا اجتماعيا ضروريا ومن هنا لا بد من اعادة تنظيم القطاع الخاص وتحسين جودة التعليم العمومي .
تبدو جودة التعليم مدخلا اساسيا لطرح مسالة البرامج و المحتويات المعرفية ،هذه المضامين التي تحولت وجهتها للتسييس و التجهيل المنظم لا بد من اعادة النظر فيها لترتقي لمستوى النجاعة العلمية والمهارية ارتباطا بحاجيات الاقتصاد من الكفاءات وفي ذات الوقت تجذير المتعلم في هويته بمختلف ابعادها وخلق انسان منفتح غير منغلق متشبع بالفكر النقدي والعقلاني متسامح ومنسجم مع ذاته دون تقوقع او انبتات معتز بانتمائه لوطنه مع التركيز على المشتركات الوطنية وتحييد البرامج عن كل تحزيب او صراعات ايديولوجية او سياسية ضيقة .
كما لا يمكن التطرق لجودة التعليم دون اعادة النظر في المناظرات والتكوين والرسكلة والانتدابات والقطع مع اشكال التشغيل الهش في قطاع حساس وتحسين وضعية المدرس وتنظيم القطاع وتجنيبه التعاطي المرتجل واعادة النظر في الزمن المدرسي و تسيير المدارس الاعدادية والمعاهد و مدى تدخل كل طرف في العملية التربوية و تحييد المؤسسة التربوية عن التسييس والتحزيب .فضلا عن طرح مسألة الدروس الخصوصية بجدية في علاقة بجودة البرامج المقدمة بالمدرسة والمعهد والوضعية المادية للمدرس ودور الولي في العملية التربوية من أجل تنظيم هذا العمل وتقنين ممارسته لكي لا يتحول الى مدخل لتسليع التعليم و عدم تكافئ الفرص بين المتعلمين .

كما لا يمكن انجاح العملية التربوية من أعلى هرمها الى التسيير اليومي دون احترام العمل النقابي واعتبار النقابات شريكا أساسيا في كل مراحل العملية التربوية انطلاقا من تنظيم المهنة الى صياغة البرامج الى تسيير المؤسسات الى حل المشكلات العالقة باعتبارها الممثل الشرعي للقواعد من مدرسين وقيمين و اداريين و عملة تربية و غيرهم .
هذه المسائل وغيرها لا تزال عالقة تنتظر حوارا وطنيا و مشروعا جديا للإصلاح يزيد الحاحا خاصة أمام ما استحدث من تهديدات للمدرسة العصرية والمتمثلة في انتشار أنماط من التعليم البدائي والتقليدي خارج أنظار المؤسسة الرسمية بالكتاتيب و الحلقات المغلقة بالأحياء الشعبية يمارس الفصل بين الجنسين وينشر نمطا قروسطيا من التفكير ويغرس في الناشئة مفاهيم تشجع على الانقسام والكراهية مع تغييب الحس النقدي والابداعي وتعويضه بفكر قادم من غياهب التطرف  تكفيري معاد للعلم والابداع ...هذه الأنماط تنتشر داخل مجتمعنا في صمت مغتنمة حالة الانفلات و غياب جهاز الدولة فضلا عن النداءات العلنية باعادة نمط تقليدي من التعليم أو ما يسمى بالتعليم الزيتوني وخلق نمط مواز من التعليم يضرب وحدة التعليم العمومي العصري ويفرّخ جحافل جديدة من المعطلين على هامش حاجيات الاقتصاد .
ان التأسيس لمدرسة عصرية تقدمية البرامج والمناهج تكون في مستوى تطلعات شعبنا لا يجب أن يتأخر فالإزدهار الاقتصادي و الأمن والسلم الاجتماعي رهين مخرجات المنظومة التربوية التي يعتبر اصلاحها أوكد المهمات المطروحة علينا جميعا ، فان كان التأسيس لدولة مدنية ديمقراطية يمر حتما عبر ركائز دستورية وقانونية فان التأسيس لمجتمع واع يؤمن بالديمقراطية وقيم الحداثة 
وينبذ التعصب والتطرف يمر حتما عبر منظومة تربوية ناجحة وناجعة ضرورية لإنجاح المسار الديمقراطي

الأربعاء، 13 يونيو 2012

دوامة العنف السلفي ومغالطة الدفاع عن المقدسات


دوامة العنف السلفي ومغالطة الدفاع عن المقدسات
محمد المناعي
تعم البلاد هذه الأيام موجة جديدة من العنف و حلقة من الانفلات الأمني والفوضى وإذ تبدو التيارات السلفية العنوان الأساسي لهذا العنف فان عجز السلطة القائمة على القيام بدورها وواجبها هو العنوان الحقيقي لما يجري ، مما يطرح عدة تسائلات حول مصير الإنتقال الديمقراطي بل مصير الحريات الأساسية في البلاد التي يزيد انتهاكها والتعدي عليها يوما بعد آخر في ظل حياد سلبي للمجلس التأسيسي و فشل بيّن للحكومة المؤقتة في معالجة الملف الأمني والحفاظ على هيبة مؤسسات الدولة أمام رأي عام منقسم بين مبرر لردة فعل هذه الجماعات المتطرفة و مدين للعنف مهما كانت مبرراته...
يبدو للوهلة الاولى ان ما عرض في قصر العبدلية من رسوم هي السبب الرئيسي لعودة موجة العنف كما يروج سعيا لإخراج هذا العنف اخراجا شرعيا دفاعا عن المقدسات ونصرة للإسلام كما يقولون والحال ان هذا العنف بدأ بالاعتداء على المبدعين والفنانين منذ الأيام الأولى التي تلت 14 جانفي وتواصل برفع السلاح في وجه الجيش الوطني بالروحية وبير علي بن خليفة و بالتعرض للمسيرات السلمية وللندوات الفكرية بالعنف والترويع و مؤخرا بالتعدي على الممتلكات العامة و الفردية بحرق وتخريب محلات تجارية بتعلة بيعها للخمور و الاعتداء بالحرق على نزل و مقرات للأمن بكل من سيدي بوزيد وجندوبة و ما الاعتداء على قصر العبدلية و تهشيم محتوياته و اتخاذه ذريعة لنشر العنف في اماكن مختلفة من البلاد سوى حلقة أخرى من حلقات العنف تغذيها أطراف عدة اولها صمت الحكومة و عجزها عن فرض هيبة الدولة والمؤسسات و اعتبار قيادات الحزب الحاكم ان هؤلاء " السلفيين " هم ابنائنا خرجوا من رحم الثورة ...حتى بعد تورطهم في العنف والدماء و عجزها ايضا عن فتح حوار معهم وترويضهم ...وثانيها ارتباطات خارجية تساعد تأطيرا وتمويلا و تكوينا مرتبطة بعضها بالنظام الوهابي السعودي ( تصريح اذاعي لعبد الفتاح مورو يقر بوجود ندوات تكوينية وهابية بتمويل سعودي ) وبعضها بتنظيم القاعدة ولا ادل على ذلك من  تخصيص زعيم التنظيم الارهابي القاعدة لكلمته الأخيرة لتونس وتحريض اتباعه بالخروج على السلطة و التمرد والدعوة لبن لادن من منابر الجمعة في عدة اماكن من الجمهورية ...
ان ما يلفت الانتباه انسياق فئات واسعة من الناس في موجة تبريرية لهذا العنف الذي سوق دفاعا عن المقدسات والحال ان معرض الرسوم كان شبيها بسابقيه ومجرد أعمال فنية يمكن نقدها و في اقصى الحالات يمكن اعتبارها تهريجا لا عملا فنيا دون الدخول في تكفير اصحابها او تهديد حياتهم او الدعوة للعنف ...فما روجت له صفحات الفايسبوك من رسوم لا علاقة لها بمعرض العبدلية كان هدفه تسويق صورة مفادها ان الرسامين اعتدوا على المقدسات وجسدوا شخصيات دينية وسخروا من رموز مقدسة وثابت ان اغلب المروجين لهذا التوجه تنتشر بين صفوفهم الأمية فقد كتب أحدهم على جدار معرض العبدلية ( دافيعو على رسول الله )ومحدودي الاطلاع على الفن والدين معا ، ليس لهم اي اطلاع على الأعمال الابداعية الشعرية وغيرها في القرون الأولى للإسلام و لا على الشعر الاباحي ولا على خمريات ابي نواس ولا على مؤلفات المعري من رسالة الغفران التي صورت الجنة صورة كاريكاتورية او اللزوميات او غيرها وتم التعاطي معها فنيا دون اي اشكال في تلك العصور بل لا اطلاع لهم على القران والاحاديث النبوية التي لا اثر فيها بصحيحها و ضعيفها وآحادها على نص به تحريم تجسيد شخصيات دينية بل هناك مذاهب تجسد الأنبياء والرسل في اعمالها الفنية دون حرج ...وحتى ان اعتبرنا ان عدم التجسيد هو عادة اصبحت بقيمة المقدس في المجتمعات السنية فان الرسوم التي عرضت لا تمت بأي صلة بتجسيد اي من الشخصيات الدينية المقدسة بل تنقد ظواهر اجتماعية كاللباس و التعبد وغيرها وأغلب الرسوم التي روجت على المواقع الاجتماعية هي لمعارض بباريس والسنغال ولم تعرض يوما في تونس...ومهما يكن من أمر فان التعاطي مع اي عمل فني مهما كانت جودته يضل مسالة نقدية وذوقية لا ايمانية لا علاقة لها بالكفر والايمان و في اقصى الحالات فان القضاء سيد الموقف والعنف لا يزيد المبدع الا اصرارا .
ان كل ممارسة للعنف سواء بمسوغ الاستفزاز او الدفاع عن مقدس ما او فكرة ما هو دعوة صريحة للطرف الأخر للدفاع عن نفسه بنفس الأساليب فمن يترك الحوار ويسلك نهج العنف يدعو خصمه للمعاملة بالمثل وفي غياب سلطة القانون و الدولة يفسح المجال واسعا لعصبيات أخرى تتشكل على اساس المنهج او الإنتماء الفكري او العائلي او الجهوي لتدافع عن مكاسبها وممتلكاتها وهذا لا يقود الا لموجة من العنف المنظم الذي يرتقي للحرب الأهلية و بالمقياس الديني فتنة والفتنة أشد من القتل لا يستفيد منها اي طرف و لا ينتصر فيها اي كان هي دوامة تعيد انتاج نفسها عبر آلية الثأر ، الفعل ورد الفعل..
لو فهم ذلك المتعصب الذي اختار نهج العنف ضد من يخالفه الراي قول الله في القران : (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ( المائدة 105 ) لنزع عن نفسه أعباء ومسؤوليات كلف بها نفسه لا علاقة لها بالدين، فالاسلام لم يأمر المسلم الا بنصح الأخرين ودعوتهم الى الطريق القويم دون اجبار او اكراه وما ممارسات بعض المجموعات المتطرفة الا عنفا سياسيا وترهيبا للناس لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالاسلام المتسامح الذي يعطي حق الايمان والكفر و يامر الناس للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالإكراه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ، النحل 125 ).
يبدو التعاطي مع هذه الظاهرة ضروري وملح بفتح حوار شامل حول العنف السياسي والعنف عموما و رفع الأمية الفكرية عن هذه القواعد التي تنتهج العنف باستدراجها الى الحوار من داخل منظومتها ومقارعتها بالحجة والعمل على اقناعها و تطوير مناهج التعليم لتستجيب لحاجة الناشئة من تربية دينية معتدلة تغلق الباب امام نزعات التشدد والتطرف كما يجب على السلطة القائمة حاليا ومستقبلا التعاطي بجدية مع الظاهرة باحترام حرية الفكر والمعتقد للسلفي وغير السلفي وعدم المحاسبة على الضمائر والنوايا والمظهر و تجريم كل عمل عنف مهما كان مسوغه ومهما كانت دوافعه لردع كل مستهين بالدولة وقيم المجتمع مهما كان توجهه وعقيدته .
 13 جوان 2012

حكومة انقاذ وطني في مواجهة الاصرار على الفشل


حكومة انقاذ وطني في مواجهة الاصرار على الفشل
بعد أكثر من ثمانية أشهر على انتخابات أكتوبر وبعد الفشل الذريع الذي منيت به حكومة النهضة على جميع الأصعدة في الاقتصاد والتشغيل والأمن و الاصلاح والعدالة الانتقالية ، تعالت أصوات معارضة تنادي بحكومة انقاذ وطني برئاسة شخصية غير حزبية تقي البلاد التجاذب السياسي و تعمل بوفاق على حل الملفات المستعجلة و على راسها الملف الأمني وقد تزعم هذه المبادرة الحزب الجمهوري و خلف ردود فعل متباينة بين مساند و بين رافض ومتمسك بشرعية انتخابية اهترأت و وتحوّلت في غياب الوفاق الملاذ الوحيد للحكومة في مواجهة منافسيها ومنتقديها .
يعود النقاش حول تسيير وقيادة المرحلة الانتقالية الى ما قبل 23 أكتوبر حين طرحت مجموعة من الأطراف السياسية التي تحولت فيما بعد الى المعارضة مشاريع حكومة تكنوقراط يتم الاتفاق على تركيبتها بين الأطراف المكونة للمجلس التأسيسي لتسيير البلاد لمرحلة انتقالية ثانية في حين يتم تركيز المجهود على التسريع بانجاز دستور للبلاد و انجاح انتخابات تشريعية ورئاسية وبلدية تضمن الاستقرار و يأخذ كل طرف موقعه من المشهد السياسي بين سلطة و معارضة ، واجهت النهضة هذا المشروع بمشروع الترويكا و بالاعلان عن رغبتها في رئاسة الحكومة و توزيع السلطات المؤقتة بين حليفيها و لسحب البساط من تحت خصومها طلبت النهضة من بقية الأحزاب الالتحاق بالحكومة تحت قيادتها بتعلّة الشرعية والأغلبية ،فكانت بداية الفرز السياسي والاصطفاف بين حكومة ومعارضات على مسافات مختلفة من السلطة القائمة تعرّضت طوال الفترة الانتقالية الى اليوم الى تهم العرقلة و التخوين والمآمرة و التشويش وغياب الاقتراحات والهيمنة على النقابات والاعلام و الوقوف وراء الحراك الاجتماعي من اضرابات واعتصامات ... وفي كل ذلك جعلت الحكومة المعارضة الشماعة التي تعلق عليها فشلها وتعثر ادائها و أداء وزرائها .
لم توفق الحكومة منذ تنصيبها في فتح حوار وطني حول المسائل الحساسة العالقة سواء مع الاطراف الاجتماعية و على راسها الاتحاد العام التونسي للشغل أو الأطراف السياسية واستفردت باسم الشرعية في مواجهة الجميع الا المشكلات العالقة، بجيش من الوزراء وكتاب الدولة والمستشارين تتالت أخطاء بعضهم وبدا عجز بعضهم الأخر و انخرط أخرون في مهاترات اعلامية لا طائل من ورائها تستهدف الاعلام والمعارضة والمنظمة النقابية .
لم توفق الحكومة في فتح ملف التشغيل والتنمية واعتمدت سياسة المسكنات للجهات التي لا تزال تحتج تحت وطأة الفقر والبطالة والتهميش و غياب الدولة و لا تجد من الوزراء غير الوعود و التراجع عنها و في أقصى الحالات الامضاء على تعهدات واتفاقات على مستوى وطني وجهوي تضل طي الأدراج أو يتم التراجع فيها علانية ورمي الكرة تارة الى الاتحاد مطالبة اياه بالصبر على عجزها و طورا للإعلام الذي يغطي نتائج الفشل الحكومي و يبحث عن استقلاليته و أحيانا أخرى للمعارضة مطالبة ايها بان تبارك ما تفعله الحكومة لكي تكون بناءة و جدية وتضيق بنقدها والبدائل التي تقدمها سواء داخل المجلس أو خارجه و يبقى المشهد الاقتصادي في تدهور مستمر رغم الأرقام الايجابية والمتضاربة التي تقدمها الحكومة... و يزداد تعطل الإستثمار بناءا على كل ما سبق وعلى مكانة الاقتصاد التونسي في المشهد العالمي ..
ولعل الرهان الذي خسرته حكومة النهضة و أتباعها وحلفائها هو موضوع العنف السياسي تحت تسميات مختلفة و الذي تجسد بل وتكرّس في فترة وجيزة انطلاقا من الميليشيات التي تفسد التحركات السلمية و تشوش على الندوات والمحاضرات وتقتحم حرمات الكليات و المعاهد والمدارس وتعتدي على الحقوقيين والسياسيين والأساتذة وصولا الى وجود عصابات اجرامية تفتح النار على قواتنا المسلحة كما حدث في بير علي بن خليفة أو في الروحية أو جندوبة حيث تتدخل نفس المجموعات الاجرامية لتروع السكان و تتدخل في شؤون لا تعني سوى الدولة لوحدها في استهانة بالمؤسسات وبالقطاع الأمني ذاته ومن ورائه هيبة الدولة التي تهتز سواء بالتواطئ و الصمت ازاء العنف الممنهج الذي يمارس على الجميع أو بالاعتداء على حقوق الانسان وحرياته الشخصية في تبني الفكر والمعتقد الذي يراه مناسبا و احترام كل احتجاج سلمي لا يعطّل الأنشطة الحياتية للدولة والمواطن من ناحية أخرى .
أمام تردي الوضع و بقاء هذه الحكومة تراوح مكانها لعدة اسباب يبدو الوضع ملحا على الدفع نحو حكومة انقاذ وطني تكون محدودة العدد ليست وفق محاصصة حزبية اثبتت فشلها، لها أهداف واضحة ومستعجلة، تعود بالنظر للمجلس الوطني التأسيسي لإتخاذ القرارات الحاسمة تأخذ على عاتقها الملف الأمني وملف الجرحى و الشهداء و ملف المعطلين  ونصيب الجهات المحرومة من التنمية العادلة و تجلس مع جميع المتدخلين في الشان الوطني الاقتصادي والاجتماعي والسياسي و مصارحة الشعب بقدرات الدولة و امكاناتها الحقيقية وتشريك الجميع قبل تحميل الجميع مسؤولية انهاء الفترة الانتقالية بدستور و مؤسسات ديمقراطية و انتخابات شفافة بتنظيم من هيئة مستقلة لا تشوبها اية شائبة وتجاوز منطق الأغلبية والأقلية التي تتجاهل حقيقة ان الأغلبية تم اختيارها في انتخابات تاسيسية بناءا على مشروع للدستور لا بناءا على برنامج اقتصادي لتحكم البلاد والعباد على خلاف ما تتطلبه المراحل الانتقالية .
و في النهاية تبقى مسؤولية القوى التقدمية و الأحزاب الديمقراطية كبيرة في انقاذ البلاد واعادة مؤسسات الدولة لنشاطها والحزم في التعامل مع ظاهرة العنف السياسي و قيادة البلاد توافقيا الى الاستحقاقات الانتخابية القادمة .
الأربعاء 13 جوان 2012

الاثنين، 28 مايو 2012

تعويض المساجين السياسيين أو التكسّب من النضال


تعويض المساجين السياسيين أو التكسّب من النضال
بقلم: المناعي (نشر بجريدة الطريق الجديد 26 ماي 2012 )
يتواصل الجدل في الأوساط السياسية حول موضوع التعويض المادي للمساجين السياسيين واذ تتمسك حركة النهضة بضرورة رصد تعويضات مالية ضخمة لأتباعها فان الحركة النبيلة والنضالية التي قام بها المساجين السابقين من اليسار والمتمثلة في رفض مقايضة سنوات السجن و النضال ضد الدكتاتورية بالمال لفتت الأنظار وثمنها كل من آمن بان النضال واجب وليس منة او تجارة و فتحت الباب امام عدة تسائلات حول مشروعية التعويض وزمنه ومستحقيه ودور العدالة الانتقالية في هذا الملف .
ما انفكت حركة النهضة منذ توليها الحكم التعامل بمنطق الغنيمة حتى مع شركائها وتتناسى طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد والتي تتطلب جدية في التعاطي مع الملفات العالقة ووضع مصلحة البلاد و تركيز اسس صلبة للديمقراطية فوق كل المصالح الحزبية والفردية الضيقة ، واذ تبدو نزعة الهيمنة على الادارة و الاعلام واضحة فان الفشل الذريع الذي منيت به في معالجة الملف الاقتصادي بعد نصف عام من الحكم يطرح بجدية العجز الواضح على قيادة البلاد والخروج بها من الأزمة ، ومواصلة لمنطق الغنيمة طرحت الحركة موضوع التعويض المالي لسجنائها في عهد بورقيبة وبن علي وتداولت الأوساط الاعلامية والسياسية مبالغ خيالية مرصودة لهذا التعويض تنبؤ بتشكيل طبقة من الغانمين من الثورة .
من جهة أخرى تطرح مشروعية التعويض ، فلطالما حوّل ماسكي السلطة اليوم السنوات التي قضوها في السجن الى موضوع للمزايدة و للتجارة السياسية والحال ان أجيالا تعاقبت على السجون منذ فترة الاحتلال الى العهد البورقيبي الى اليوم من المناضلين ضد الاحتلال الى المناضلين ضد الحكم الفردي من اليسار من الحزب الشيوعي التونسي ويساريي افاق و التيارات السياسية المنبثقة عنها اضافة الى النقابيين والطلبة واليوسفيين و اجيال من العروبيين البعثيين والناصريين وصولا الى التيارات الاسلاموية المختلفة التي دخلت في صراع مع السلطة الحاكمة من اجل الوصول الى السلطة وتنفيذ مشاريعها وعلى راسها اقامة الدولة الدينية التيوقراطية مما جلب لها سنوات من السجون والتعذيب و احكام تتراوح بين جرائم الحق العام و قضايا متعلقة بالنشاط السياسي واخرى بتهم العنف .
 لا شك ان من حق كل متضرر من الدكتاتورية التعويض عن ضرره غير ان النضال لا يعوض ماليا بل يكرّم صاحبه بعد اعادة فتح للملفات بجدية و اعادة التحقيق في عدة قضايا ،اذ يعلم الجميع ان الحملة التي شنها نظام بن علي على المنتمين للتيار الاسلاموي اختلطت فيها الأحكام بين جرائم حقيقية و تلفيق قضايا وهمية وحكم صريح على الانتظام في جمعية او حركة غير مرخص لها وغيرها مما يجعل من الخطأ وضع الجميع في سلة واحدة و سحب صفة النضال على الجميع، وربما يطرح السؤال الذي تخشى كل الأطراف طرحه ...النضال من أجل ماذا ؟ هل من أجل العدالة الاجتماعية و الحق في الشغل والكرامة ؟ هل من أجل الديمقراطية و التداول السلمي على السلطة ؟ هل من أجل احترام حقوق الانسان والمواطن ؟ ام من أجل ارساء دولة تيوقراطية و التداول على الاستبداد ؟
ان الضرر الذي لحق بالشعب التونسي سنوات القهر لم يقتصر على سجن وتعذيب السياسيين بقدر ما امتدت جذوره لكل شرايين الاقتصاد والحياة اليومية للناس حيث انتهكت اعراض و انتزعت املاك من اصحابها غصبا و نهب المال العام و طرد موظفين من أعمالهم والتضييق على المناضلين في عملهم وقوتهم ، ومن جرائم الدكتاتورية تهميشا جماعيا و اقصاءا لجهات بأكملها وحرمانها من التنمية العادلة و من جرائمها الفساد المالي و الاداري فضلا عن انتهاك حقوق الانسان داخل السجون وخارجها...هذه الممارسات وغيرها تتطلب حوارا وطنيا واسعا و تروّ في فتح الملفات و اعادة التحقيق في اغلبها من طرف مؤسسات محايدة عن السلطة وعن اي نفوذ حزبي من أجل التسريع باسترداد حقوق كل من انتزعت منه املاكه او عمله و ضمان العيش الكريم لكل من ادى به الضرر الى العجز عن كسب قوته ومعالجة ضحايا التعذيب والتنكيل واعادة الاعتبار لكل من ناضل عبر تكريمه دون مقايضة ما قام به من واجب بالمال خاصة اذا كان مصدر التمويل مالا عاما من أولويات المرحلة توجيهه للتنمية والتشغيل ولتركيز مؤسسات الدولة والقضاء على التهميش .
يبدو موقف مناضلي اليسار و العائلة التقدمية من ناشطين سياسيين وحقوقيين موقفا مشرّفا بعدم قبول اي تعويضات على سنوات النضال ، النضال الحقيقي ضد الحكم الفردي ومن اجل العدالة الاجتماعية والحريات العامة واحترام حقوق الانسان والتداول السلمي على السلطة هذا التنازل الذي أحرج دعاة المقايضة بالمال أكد الفرق بين من ناضل من أجل حزبه ومن ناضل من أجل شعبه و مهما يكن من أمر فان تفعيل العدالة الانتقالية ومحاسبة من أفسد ومن أجرم هو المدخل الضروري لطي صفحة الماضي وتوضيح الرؤية لكي لا يتحول النضال الى موضوع للمزايدة ولا الى مصدر للكسب المادي .

غياب المحاسبة يجعل من الثورة مجرد تحوّل


غياب المحاسبة يجعل من الثورة مجرد تحوّل
بقلم : المناعي

بعد أكثر من سنة على انطلاق الثورة،لا يزال التجاذب قائما بين القوى السياسية في البلاد حول من تورّط ومن ناضل ومن صمت ومن أجرم ومن تضرر ... وإذ لا يخلو هذا التجاذب من مزايدات لا تخفى على احد ، فان ارادة الحسم في قضية المحاسبة تضل غائبة و تضل تركة التجمع والنظام الحاكم في تونس قبل الثورة محل تنافس وتسابق لا على المحاسبة و التصفية بل على نيل أوفر نصيب من الرصيد البشري و المادي لهذه المنظومة الفاسدة والمتشعبة بل الى حد العمل على استعادة طرق تعاملها مع الإدارة والإعلام والمعارضة و المجتمع من طرف السلطة الانتقالية الجديدة في اعادة انتاج للأسلوب الهيمني ولخلط الدولة بالحزب والأمن بشبكة موالين كما دأب على ذلك نظام بن علي ، في حين تحولت قوى حزبية من اليمين الى اليسار تخطب ود التجمعيين طمعا في الإستقواء بهم في مواجهة تغوّل القوة السياسية الأولى في البلاد اليوم .
ان المأزق الذي وضع فيه الجميع اليوم يعود لغياب المحاسبة وتعطل مسار العدالة الانتقالية مما فتح الباب على مصراعيه للاتهامات المتبادلة و للتهم التي توجه من الجميع إلى الجميع فالحزب المهيمن على السلطة اليوم والذي لا يفوت أي فرصة للتذكير بالسجون والتنكيل الذي تعرض له في العهد السابق لم يتردد في الاعلان مبكرا على أن التجمعيين وحتى الرموز منهم والذين لم يثبت تورطهم قضائيا مرحب بهم في الحركة و اليوم بوصوله السلطة لم يتوانى في المحافظة على رموز ادارية وسياسية شغلت مناصب بارزة مع بن علي من ولاة ومعتمدين ورؤساء مصالح بالوزارات ليصل الأمر الى ترقية بعضهم ...و رغم انشاء وزارة لحقوق الانسان والعدالة الانتقالية لا يزال الى اليوم ملف الفاسدين والمتورطين في قتل الشهداء لم يفتح جديا بل راس الفساد تم غض الطرف عنه واعتباره مسالة ثانوية مقابل علاقة الصداقة مع المملكة السعودية ، كما لم تنجح السلطة الجديدة في استعادة الأموال المنهوبة من عائلة الرئيس السابق و أصهاره وشركائه وأصحاب رؤوس الأموال الذين مثلوا  ذراعه الاقتصادية في النهب والسيطرة والاستغلال ويبحثون اليوم عن موطئ قدم مع الحكام الجدد الذين لم يحركوا ساكنا في قضايا التهرب الضريبي والفساد المالي والإداري والصفقات المشبوهة التي تنخر الاقتصاد الوطني .
لا شك أن مسألة المحاسبة تطرح عدة اشكالات ورهانات لا بد من طرحها ورفعها وصعوبات لا بد من تذليلها فلا يمكن فتح ملف الفساد في الادارة و الإعلام والمنظمات والجمعيات و الرياضة و الفلاحة والسياحة و التعليم وغيرها دون فتح الملف الأول وهو القضاء ...اذ لا يمكن الاصلاح بقضاء مخترق بعناصر فاسدة الجميع يقر بوجودها ولا أحد يتحمل تبعات الخوض فيها ، وفي غياب قضاء مستقل تشريعيا وفعليا و محاسبة تقطع مع التخوين الذي يرفع في الوجوه على القياس وحسب الوضعية يضل الوضع محل مزايدات متواصلة ترفع فيها تهمة الفساد ضد كل من لا ينخرط في الركب الجديد و تسقط عن أخرين مقابل تقديم رسوم الطاعة ...و الحال أن ارادة اصلاح القضاء تمر حتما عبر تشريك الهياكل الشرعية الممثلة لسلك القضاة و مجموعة ضيقة من القضاة النزهاء باجماع زملائهم للبت في الملفات العالقة و اقتراح الطرق الأنسب للخروج بهذا القطاع الحساس من دائرة التجاذبات .
الرهان الثاني الواجب رفعه وهو ضبط مستويات من موضوع المحاسبة تنطلق بالعاجل منها وهم قتلة شهداء الثورة و المتسببين في اصابات جرحاها ولا يمكن أن تطوى القضية بدون محاكمة المسؤولين المباشرين عن هذه الجرائم و تكريم الشهداء و معالجة الجرحى وتعويض العاجز منهم. والمستوى الثاني كل من تورط ماليا أو سياسيا في النظام الدكتاتوري واستغل جهاز الدولة لمصالح شخصية ومارس القمع والتعذيب وذلك بالمحاكمة العادلة و معاقبة كل من تورط في التعذيب والتغريم المادي لكل من تمعش ماليا بطريقة مباشرة او غير مباشرة من النظام العائلي السابق واسترجاع المال المنهوب في الداخل والخارج في المقابل تكريم السجناء السياسيين دون الدخول في مقايضة نضالهم بالتعويض المالي مع اعطاء الأولوية في الشغل والمساعدة الاجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة منهم ، الطبقة الثالثة من المحاسبة تشمل الحقبة الممتدة للحكم البرقيبي والتي يترتب عنها من بين ما يترتب اعتذار عن سنوات قمع اليساريين واليوسفيين والنقابيين والطلبة وتعذيبهم وكشف الحقائق وتكريم شهداء جميع الأحداث و المحطات النضالية ضد الدكتاتورية و مراجعة علمية متأنية لتاريخ البلاد تعيد لكل من تم تهميشه لحسابات سياسية المكانة التي يستحقها .
ان الحسم في اصلاح القضاء يعتبر مدخلا ضروريا لتفعيل العفو التشريعي العام وخاصة الفصل بين العقوبات ذات الطابع السياسي والعقوبات الفعلية ذات الطابع الاجرامي او الارهابي التي يمكن أن يكون قد اقترفها نشطاء سياسيون في فترة زمنية معينة ، كما ان قضاء مستقلا هو الفيصل في الحسم في قضايا الفساد المالي والاعلامي والاداري و اصلاح ما أفسدته السنين عبر محاكمات عادلة بدونها لن تتحقق مصالحة وطنية وبدونها يضل الاتهام بالتبعية للنظام السابق والمزايدة بالثورية سيدة الموقف في كل القطاعات التي ينخرها الفساد .
يعتبر التلازم بين المحاسبة والمصالحة كما التلازم بين المحاسبة و المسار الثوري ذاته ، ذلك أن لا ثورة دون قطع مع الماضي و لا بناء للمستقبل دون تفكيك تركة الماضي و اعادة بناء مؤسسات ديمقراطية تحمي المجتمع من خطر التداول على الدكتاتورية بنفس الجهاز و نفس الممارسات ونفس المنظومة وعليه فإن غياب المحاسبة يجعل من الثورة مجرد انتفاضة أدت الى تحول في أعلى هرم نفس منظومة الفساد والاستبداد .